البردوني.. (مصطفى لا يتكرر)

كتب الدكتور مبارك سالمين:
بعيدًا عن التحايا التقليدية في المناسبات الشبيهة، سنكرس هذه المقالة المختصرة في القراءة لنموذج من منتوجه الإبداعي العظيم، متضمنة بالتحديد عرض نقدي موجز لقراءة نقدية جادة سابقة لقصيدة البردوني الشهيرة “مصطفى”. تلك القراءة التي قام بها الشاعر والناقد الدكتور سعيد الجريري في متن كتابه النقدي “شعر البردوني.. قراءة أسلوبية”، وذلك في الآتي:
أولًا: الجريري في تحليل “مصطفى”:
بالنظر إلى عمارة النص الشعري، يمنح العنوان أهمية بالغة التأثير في سياق التحليل في الشعر والنثر على السواء؛ ذلك لأن العنوان مستهل الكلام، وتتجاوز وظيفته تأطير النص، لأنه “يمثل أول مثير أسلوبي…”. فمن أين جاءت مقاربة الجريري الجمالية لعنوان القصيدة “مصطفى” المختارة من ديوان “كائنات الشوق”؟
حسب الجرجاني، حين تهتز لنص شعري ما، لا يكون الوزن والقافية التي استخدمها الشاعر سببًا في ذلك، بل لأن الشاعر “قدم وأخر وعرف ونكر وحذف وأضمر وأعاد وكرر…”. وذلك يعني معيارية بلاغية مختلفة تؤكد أن جمال الشعر ليس رهنًا بالعروض أو القافية أو حتى المعاني وحسب، وهو درس البلاغة الأول الذي طبق الجريري به مقولته التي تذهب في التعريف إلى أن “الأسلوبية لا تمثل قطيعة مع التراث النقدي العربي”.
فـ”مصطفى” عنوان النص – “العتبة” – جميل متوهج الدلالة؛ لأنه نكرة: “اسم علم مجهول”. فالنص لا يلتفت إلى “مصطفى” معلوم، وإنما يستثمر فيه الصفة بأن غدت معادلًا مرتبطًا بصفات كنائية في النص، وسّعت دلالة العلمية بالمجهولية… وقد أسهم إفراد “مصطفى” أو مجهوليته أو تنكيره، بما هو صفة أصلًا، في إضفاء دلالة إطلاقية شمولية عليه (حيث أصبح مصطفى الرمز، النبي، الأسطورة، الحلم الممتد في الماضي والحاضر والمستقبل…)، بخلاف لو قيل مثلًا: “المصطفى”، إذ سيغدو تعريفه قيدًا يسقط الدلالة في المباشرة أو المطابقة. لكن التنكير ارتفع به إلى الإيحاء، فاتسعت الدلالة وأمكن تعددها وتنوع تأويلها… (الجريري، الدراسة، ص 72).
وبهذه المقاربة، يؤكد لنا الجريري ما الذي يمكن أن تفعله الكلمة إذا قُدّمت أو أُخّرت أو عُرّفت أو نُكّرت أو كُرّرت… إلخ، وخاصة الكلمة: “العتبة”، “مصطفى”، في تشكيل المعنى كخاصية أسلوبية لافتة في شعر البردوني.
كما إن هذه الالتفاتة النقدية تؤكد لنا أيضًا الرشاقة في التحليل والجمال في لغة النقد، والقدرة على حسن اختياره – أي الجريري – للمنهج واستخدامه بحرفية عالية، حيث عالج فيما تبقى من صفحات الفصل الأول من دراسته المستويات الدلالية لعدد من النصوص/المقاطع الأخرى، التي اختارها قصديًا لخدمة سير البحث وإطاره النظري.
“أن يقول الشعر شيئًا ويعني شيئًا آخر، يعني أن ثمة تحولًا من الدلالة المطابقة إلى الدلالة الإيحائية، وفي حين تنطوي الدلالة المطابقة على علاقة بين دال ومدلول: (دال – مدلول)، فإن الدلالة الإيحائية تمثل انتقالًا بالعلامة من كونها عناقًا بين الدال والمدلول إلى كونها دالًا لمدلول ثان.” (الجريري، الدراسة، ص 91).
“إن الاقتصار على المعنى الأول يجعل الكلمة منافرة، بينما تستعيد هذه الملاءمة بفضل المعنى الثاني. الاستعارة تتدخل لأجل نفي الانزياح المترتب عن هذه المنافرة….” (جان كوهين، 6891ص901).
لأن الخطاب الشعري معاكس للنسق/النظام، وبحسب عبارة عميقة لفاليري “لغة داخل اللغة”، وقد أجاد الجريري في تحليلاته كثيرًا، غير أن نفس البلاغة العربية كان أكثر طغيانًا من غيره من الأنفاس إذا جاز التعبير. وعلى الرغم من أن الأسلوبية كمنهج استخدمه “الجريري” في التحليل عصيٌّ على التقعيد، لأن الأسلوبية كما يبدو قد أصبحت (أسلوبيات متعددة): أسلوبية الصورة الشعرية، أسلوبية الاحتفاء بالقيمة التأثيرية للأثر الأدبي، أسلوبية العلاقة بين اللفظ والمعنى… إلخ، إلا أن الباحث قد استقامت معه الأمور عندما أعلن في مستهل تنضيده لمعنى الأسلوبية لديه: “الأسلوبية لا تمثل قطيعة مع التراث النقدي والبلاغي العربي…”
هذه المقالة ليست إلا عرضًا موجزًا وتحية لروح البردّوني ولا تندرج في إطار النقد، ولا حتى التوصيف الأولي، لكنها تحية لـ”مصطفى الذي لا يتكرر”. تحية أتمنى أن تمهد لتناولات نقدية لاحقة في إرث شاعر اليمن الأكبر، تناولات أكثر رسوخًا وتفصيلًا إن شاء الله.